القبس /4 (لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡـرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ) سورة البقرة:177- افهم حقائق الأمور جيّداً(البر والعلم والعبادة أمثلة)
(لَّيۡسَ ٱلۡبِرَّ([1]) أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ)
موضوع القبس: افهم حقائق الأمور جيّداً
من ثمرات التدبر في القرآن الكريم تصحيح نظرتك للأمور وفهمك للحقائق، وهذه الآية تقوم بهذا الدور وتبيّن مفردة مُهمّة في الحياة أعني {الْبِرَّ} الذي يُعرّف بأنه: (الاتساع والزيادة في فعل الخير)([2]), ولذا سميت الصحراء بالبرية لاتساعها.
وفي الحقيقة فأن الآية شرحت معنى الايمان المتكامل نظريّاً وعمليّاً, وإن عبّرت عنه بالبر، وفي كتاب الدر المنثور بسنده عن أبي ذر الغفاري (رضي الله عنه) أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه واله) عن الايمان فتلا عليه الآية فأعاد السؤال فتلاها ثانية وهكذا ثالثة([3]).
وقد ورد في الروايات أن الآية نزلت للتعريض بفعل أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا يسخرون من المسلمين عندما أمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه واله) بتحويل القبلة عند الصلاة من بيت المقدس إلى الكعبة المشّرفة, وأصبح للمسلمين هوية خاصة بعد أن كان أولئك يفتخرون عليهم وانهم تابعون لهم لأنهم يصلّون إلى قبلتهم وكان النبي (صلى الله عليه واله) يتوق الى ان تكون الصلاة الى الكعبة بعد الهجرة الى المدينة {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (البقرة:144), فأفقدهم تغيير القبلة هذا الادعاء, فأخذوا يشككون في صحة فعل المسلمين سابقاً أو لاحقاً.
وكانت هذه حلقة من سلسلة طويلة من المواجهة مع أعداء الإسلام، وقد نزلت عدة آيات للرد عليهم، منها قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ المشرق والمغرب} (البقرة:142), ومنها الآية التي نحن بصددها.
فالآية تقول: أن البر ليس أمراً شكلياً وحركة جسدية تتمظهر بالتوجه إلى هذه الجهة أو تلك فقط وفقط حتى يُركّز عليها الخصوم ويعتبرونها المقياس لمعرفة الحق, بينما القلوب خاوية من الايمان الحقيقي، والنفوس مجرّدة من الورع والتقوى، ولكن البر له حقيقة وراء هذه الشكليات تتكون من منظومة متكاملة من الاعتقادات والأخلاق والأفعال {وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّـرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة:177).
هكذا يجب ان نُقيّم عباداتنا وسائر أعمالنا على أساس حقائقها واغراضها وليس اشكالها وحركاتها البدنية التي لا تستحق شيئاً يُذكر, اذا خلت من المضمون، حتى لا يتملك العجب أحداً من العاملين أو الشعور بأنه قدَّم شيئاً يستحق عليه جزاءاً عظيماً.
ولنأخذ أمثلة من الواقع, كشخص يحيي الليل بالعبادة وهو لا يعلم بأن الحارس الليلي يجوب الشوارع على قدميه في ظل الظروف الجوية القاسية متحملاً المخاطر والتهديدات والمسؤولية الكبيرة ويتقاضى أجره عن الليلة عشرة الاف دينار أو أكثر بقليل أي عشر دولارات فكم يستحق التعب الجسدي لإحياء الليل بالعبادة، أو نقيس الامر على الاستئجار للعبادات, فأن أجرة صلاة يوم كامل دولاراً واحداً, او اكثر بقليل, وصوم اليوم الواحد عشرة الاف دينار, أي ثمانية دولارات, ونحن نريد بهذه الاعمال أن يدخلنا الله تعالى جنة عرضها السماوات والأرض.
فلابد أن نعرف حقيقة ما يُريده الله تعالى من هذه الاعمال وهي التقوى والورع, وان تحب الله تعالى وتؤثر رضا الله تعالى على ما سواه, وأن تحب خلق الله تعالى وتحسن اليهم بما يتيسر وتتجنب ظلمهم مطلقاً، قال الله تعالى {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج:37), فالقيمة الحقيقية ليست للأشكال والمظاهر وانما هي مع الروح والمضمون.
والملفت في الآية التي نحن بصددها أنها انتقلت من وصف {البِّر} - المصدر- إلى وصف {البَّر} - بالفتح - أو البارَّ وهو المتصف بهذه الصفات, لأن النظرية لا تُفهم الا من خلال تجسيدها عمليّاً وابرازها في سلوك الأسوة الحسنة، ولتشير إلى أن من اجتمعت فيه هذه العناصر يْكون البر صفة راسخة فيه حتى يصبح مجسداً للبِّر على ارض الواقع كما نقول: (علي عدل) أي ان العدل ملكة راسخة فيه حتى أصبح مثالاً ومصداقاً للعدل.
والصفات المذكورة واضحة ومحورها العبودية لله تبارك وتعالى وعدم التعلق بشيء سواه، وقد ذكر إنفاق المال مرتين {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} أي على حب المال وعلى حب الله تعالى، {وَآتَى الزَّكَاةَ} وكأنه للإشارة إلى قيامه بالانفاقين الواجب والمستحب، والخطاب وإن نزل للتعريض بأهل الكتاب الا أنه شامل للجميع كما هو ديدن القرآن الكريم.
فهذه هي صفات الأمة المؤمنة حقيقة التي هي خير أمة أخرجت للناس ولها مقام الشهادة على الأمم الأخرى {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} (البقرة:143), وليس بمجرد إدعاء الانتساب.
وفي الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه واله) قال: (أما علامة الباِّر فعشرة: يحب في الله، ويبغض في الله, ويصاحب في الله، ويفارق في الله، ويغضب في الله، ويرضى في الله، ويعمل لله، ويطلب إليه, ويخشع لله، خائفاً مخوفاً طاهراً مخلصاً مستحياً مراقباً، ويُحسِنُ في الله)([4]).
ومحل الشاهد هنا أن من الوظائف التي اداها القرآن الكريم وضع المعايير الصحيحة وتصحيح فهم الأمور وسار على ذلك النبي والائمة المعصومون (عليهم السلام)، روي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) قال: (دخل رسول الله (صلى الله عليه واله) المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال: ما هذا؟ فقيل: علّامة فقال: وما العلّامة؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها، وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي (صلى الله عليه واله): ذاك علم لا يضر من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي (صلى الله عليه واله): إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهن فهو فضل)([5]).
إذن فالعلم الذي يستحق أن يُسمى علماً هو ما كان فيه نفع للناس في دنياهم أو آخرتهم وتقوم به حياتهم بحيث لو تركه الناس يصيبهم ضرر بفواته، أما ما ليس كذلك كأنساب العرب ووقائعهم في الجاهلية فلا يستحق تضييع الوقت الثمين في تعلمه.
فلابد أن نراعي ذلك فيما نطالعه ونتعلمه عبر وسائل التثقيف المتنوعة التي لم تقتصر على الكتب والصحف والمجلات، بل تعدّتها إلى شبكة النت ومواقع التواصل الاجتماعي.
ومن ذلك ما رواه معلى بن خنيس قال: (سأل أبو عبدالله (عليه السلام) عن رجل وأنا عنده فقيل: أصابته الحاجة، قال: فما يصنع اليوم؟ قيل: في البيت يعبد ربه، قال: فمن أين قوته؟ قيل: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبدالله (عليه السلام): والله للذي يقوته أشد عبادة منه)([6]).
فالرواية تصحح لنا فهمنا لعنوان مهم آخر وهي (العبادة) التي نظن أنها بكثرة الصلاة والصيام وكلما ازداد منها كان أعبد الناس واذا بمفهومها أوسع من ذلك.
فكل عمل يساهم في إعمار الحياة وإسعاد الناس وإصلاحهم وتوفير الحياة الكريمة لهم هو من أسمى اشكال العبادة.
([1]) مثبّتة بالفتح في المصحف المتداول وهي قراءة حمزة وحفص عن عاصم وحكي في وجهها انه خبر ليس مقدم على إسمها، قال في مجمع البحرين: (وهو ضعيف بجعل الاسم جملة). وقرأها الأكثر بالضمّ على القاعدة مثل نافع وابن كثير وابي عمر و ابن عامر والكسائي وغيرهم وهو المروي عن ابن مسعود وابي. راجع معجم القراءات القرآنية: 1/137.

